لا يوجد ما هو أشد قسوة على النفس من أن يُسلب العمر فجأة، وأن يتحول المنزل الذي كان يعج بالحياة والضحكات إلى جدران باردة وصامتة، في حين تتحول الأحلام البسيطة إلى كوابيس تثقل الروح. هذا هو الواقع الأليم الذي تعيشه أسرة محمد صابر رشاد، ذلك الشاب في الثلاثينيات من عمره، الذي كان يجتهد يوميًا في عمله كسائق على سيارة ربع نقل، ساعيًا لبناء حياة مستقرة وهادئة لعائلته الصغيرة.
أحلام لن تتحقق
حمد، الشاب الذي تزوج منذ عامين، كان يحمل حلمًا بسيطًا لكنه مليئًا بالأمل: أن يصبح أبًا لطفل صغير يملأ حياته حيوية وفرحًا، يكبر أمام عينيه ليصبح امتدادًا لأحلامه المؤجلة وطموحاته التي لم تسعفه الظروف لتحقيقها. لم يتخيل قط أن حياته ستُسلب منه فجأة وفي لحظة عبثية، بسبب خلاف على قطعة غيار سيارة تالفة.
شقيق محمد الأكبر، علاء، كان يدير محلًا صغيرًا لبيع قطع غيار السيارات في الطابق الأرضي من منزلهم في منطقة أبوالغيط بمحافظة القليوبية. على الرغم من بساطة المحل، إلا أنه كان مصدر دخل رئيس للعائلة. قبل أيام من الحادث المؤلم، اشترى علاء قطعة غيار من تاجرين محليين يدعيان أحمد ورمضان، ولكن تبين أن القطعة تالفة ولم تصلح السيارة كما كان مأمولًا. طالب علاء باستعادة المبلغ أو استبدال القطعة، إلا أن التاجرين رفضا واندلع خلاف بين الطرفين انتهى بجلسة عرفية أفضت إلى اتفاق مؤقت يقضي ببيع القطعة التالفة وتقاسم ثمنها.
لكن أحمد ورمضان لم يقتنعا بهذا الحل وقررا التصعيد. في اليوم الذي تغيرت فيه حياة العائلة إلى الأبد، وقفا أمام محل علاء يسيئان إليه بألفاظ جارحة أمام والدته التي لم تستطع فعل شيء سوى متابعة المشهد بعجز وألم. شعر علاء بالضغط وطلب من شقيقه محمد المجيء لدعمه وتهدئة الأوضاع، خاصة أن محمد كان محبوبًا ويحظى باحترام كبير بين أهالي المنطقة.
أتى محمد مسرعًا تلبية لنداء شقيقه دون أن يعلم أن هذه الخطوة ستكون الأخيرة في حياته. بمجرد وصوله، اشتدت الأمور وتحوّل الخلاف إلى مشادة كلامية ثم إلى اشتباك بالأيدي. أثناء هذا الفوضى، كان أحمد يحرض رمضان قائلاً: "اضربه في عينه! لا تتركه!"، ليندفع رمضان نحو محمد حاملاً مفكًا مشحوذًا وغرسه في جمجمته. سقط محمد على الأرض غارقًا في دمائه، لتنطفئ أحلامه التي لم يُكتب لها أن تتحقق.
في تلك اللحظة، بدا وكأن الزمن قد تجمد. وجوه الأهالي كانت مغطاة بالذهول، وصدى صرخات الأم اخترق سكون الحي بصوت يمزق القلوب. على الجانب الآخر، انطلقت «نورا»، زوجة المجني عليه، إلى الشارع بحالة من الإنكار والحزن، تبكي بمرارة وتنادي عليه وكأنها تأمل أن تعود الحياة إلى طبيعتها. سريعًا، نُقل إلى المستشفى وهو يصارع الموت داخل العناية المركزة لمدة 18 يومًا كاملة، حتى خارت قواه وتلاشت روحه في النهاية.
داخل غرفة متواضعة ملأتها ملصقات الأدعية، جلست والدة «محمد» بثقل الحزن الذي انعكس على وجهها الشاحب ونبرة صوتها المكسورة. كانت كلماتها أشبه برثاء مستمر، وكأن صدى صرخات ابنها ما زال يعيش في أذنيها. بصوت يملؤه الأسى قالت: *"محمد كان أول فرحتي. يوم حملته لأول مرة بين ذراعي، قلت لنفسي: هذا هو من سيكبر ليكون سندي في هذه الحياة. كانت روحه مليئة بالمحبة، دائمًا يضحك معي ويقول لي: نفسي أجيبلك حفيد تفرحي بيه يا أمي."*
استرجعت الأم تفاصيل يوم الحادثة بحسرة عميقة كبرياء الأم المكلومة، وكأن قلبها يرفض قبول الفقد: *"كنت واقفة على باب البيت لما سمعت «أحمد» و«رمضان» يهددون علاء بالشتائم. شعرت بشيء غريب، قلبي تقبّض فجأة. محمد كان في عمله وقتها، لكن علاء اتصل به وقال له: الحقني بسرعة، مش عارف أتصرف. لم يفكر محمد مرتين، ركض فورًا وقال: علاء كبيري، مقدرش أسيبه لوحده."*
تابعت حياتها وهي تحاول بث كلماتها كوسيلة للتخفيف عن ألمها الذي يثقل صدرها: *"أحمد كان يصرخ على رمضان ويقول له: اضربه وما تخافش. وبالفعل، هجم رمضان عليه بمفك. حاول محمد الدفاع عن نفسه وإبعاد الضربة عن وجهه، لكنها أصابت رأسه مباشرة. المشهد لا يغيب عن ذاكرتي؛ رأيت ابني يُقتل أمام عيني، ودماؤه تغرق ملابسه."*
«الفراغ بعد الفقد»
«نورا»، زوجة المجنى عليه التي لم تكمل عامها الثاني في الزواج، كانت تجلس على الأرض، بملابس الحداد التي بدت وكأنها أصبحت جزءًا منها. وجهها شاحب، وكأن الحياة فارقتها منذ رحيل «محمد»، تضيف: «كان كل حياتي، لما اتجوزنا، كنا بنحلم بحياة بسيطة، مكانش نفسه في حاجة غير إنه يبقى أب، كان دايمًا يقول لى: نفسى أجيب ولد، يبقى امتداد ليا، كل ده راح.. قبل ما ينزل، كان بيضحك معايا. قال لى: استنينى، هرجع عالغدا. مكنتش عارفة إن ده آخر مرة هشوفه فيها».
تتوقف الزوجة عن الحديث للحظة، صوتها ينخفض، وكأنها تخاطب نفسها: «لما شفت الدم مالى هدومه، حسيت إن كل حاجة في الدنيا وقفت دلوقتي، أنا قاعدة لوحدي، مفيش حاجة أعيش علشانها، كل مرة أنام، بشوفه في الحلم بيقولى: يا نورا، عايز حقى».
تقاطعها الأم- من جديد- وكأنها تحاول حمل ثقل الحزن عن «نورا»: «إحنا كلنا كنا بنعتمد على محمد. بعد أبوه، كان هو اللى شايل البيت. مكنش بيشتكى أبدًا، لما أحمد ورمضان بدأوا المشكلة، كان عارف إنهم غلطانين، لكنه نزل علشان يحمى أخوه، مكنش عارف إنه رايح يموت.. المفكين اللى كانوا معاهم كانوا مسنونين، واضح إنهم جايين يقتلوا. أحمد فضل يحرض رمضان، ورمضان نفذ. قتلوا محمد قدام البيت، قدام الناس كلها. لو ماخدناش حقه، الدنيا كلها تبقى ظالمة».
تتنهد الأم في ضعف وتأخذ نفسًا عميقًا ليعلو صوتها في عزم وإصرار: «دم محمد غالى. مش هنسكت غير لما يتحاسبوا. رمضان في السجن دلوقتى، لكن أحمد لسه هربان. إحنا واثقين إن ربنا كبير، والقانون هيجيب حق ابنى».
«نورا» تختتم حديثها بصوت مختنق بالدموع: «كل ليلة، بحلم بيه، بشوفه بيضحك لي، بيقولي: مش عايزك تزعلي، لكن أنا مش قادرة أنسى إنه كان نايم في المستشفى، ما بيتكلمش، وأنا مش عارفة اعمل حاجة».
في الشارع، لم يتوقف الحديث عن الحادثة. الجميع يعرف أن «أحمد ورمضان» من أصحاب السوابق، وأنهما دائمًا ما يثيران المشكلات مع أهالى المنطقة، يؤكدون «محمد كان مالوش في المشاكل، عمره ما غلط في حد».
من جانبها، تكثف أجهزة الأمن من جهودها لضبط المتهم الهارب فيما ضبطت شقيقه الذي قررت النيابة العامة حبسه 4 أيام على ذمة التحقيقات